جاري التحميل

مفهوم التبشير والتنصير

الموضوعات

مفهوم التبشير والتنصير

كتبت الكاتبة أمل عاطف محمد الخضري في كتاب ( التنصير في فلسطين في العصر الحديث ) في هذا الموضوع

الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)

فقالت:

أولاً ـ مفهوم التبشير:

أ ـ معنى التبشير لغة:

بَشّر وأَبْشَر، يقال: بَشَّره، وأَبْشَره تبشيراً، وبَشّر من البُشْرى، وأبشرت الرجل وبشّرته وبَشرْته: يعني أخبرته بسارٍ بسط بشرة وجهه.

والتبشير: هو إخبار فيه سرور، والاسم: بشارة بكسر الباء وبضمها.

والتبشيـر لا يكون إلا بالخير، وإذا كان بالشر فلا يكون إلا مقيداً، كقوله تعالى: ﴿ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [لقمان: 7].

ومـن هنا فعندما يقال بشَّر بالشيء فهو مبَشِّر، والمُبَشِّر هو الذي يبشر القوم بأمر خير أو شر، ولكنه يغلب في الخير([1]).

إذن تدور كل المعاني التي وردت في معاجم اللغة حول الإخبار بالسرور إطلاقاً، أو الإخبار بالشر تقييداً.

ولم تأت بمعنى التبشير بالدين النصراني إلا في معجم واحد جاء فيه: تبشير مصدر بشَّر، وبَشَّر إما أن تكـون بشَّر بالخبـر أي جـاء بمجـرد الخبر، وذلك كمثل قوله تعالى: ﴿ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ [مريم: 7].

وإما أن تكون بَشَّر بالخير، كقوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ[البقرة: 25].

وإمـا أن يكون التبشيـر بفكرة عُـرف بها أو دين يدعو إليه، وذلك كما تقوم به بعض الكنائس النصرانية.

والبشارة فـي النصرانية هي الإنجيل، والبعثة التبشيرية هي هيئة دينية تدعو إلى النصرانية([2]).

وتـرى الباحثة أن هذا التصنيف غير دقيق، فالخبر لا بد وأن يكون ساراً أو غير سارٍ، وإما أن يحمل خيراً أو شراً، فإنـه عندمـا يقال بشر بالخبر لمجرد الخبر فليس ذلك دقيقاً، فإن زكريا عليه السلام لـم يبشر بالغلام إلا بعدما طلبـه مـن الله سبحانه وتعالى، وعليه فـإن إبلاغه بتحقيـق أمنيته ليس إلا بشارةً مـن الله سبحانـه وتعالى له بالخير أو بالخبر السار، الذي كان يتمناه.

وأمـا التبشير بفكرة ما فإن صاحبها يدعو إلى فكرِه ولا يبشر به، ولو كان الأمر كذلك لأُطلق على صاحب كـل فكرة ينادي بها ويدعو إليها ـ وما أكثر تلك الدعوات ـ مبشراً ولأطلق علـى دعوته أنهـا دعوة تبشيرية، وهذا غير واقع. وأما مسألة التبشير بالدين فسيأتي بيان توجيهها عند ذكر المعنى الاصطلاحي للتبشير.

ممـا سبق يتبين أن بَشّر يبشر تبشيراً فهو مبشر بالخير، أو الخبر السار إذا أطلقت، وإذا قصد بها الشر تكون مقيدة.

ب ـ التبشير اصطلاحاً:

لمـا كانت معظـم إطلاقـات العلمـاء للتبشيـر على أعمال التنصير فإنه لا بد من معرفة صحة هـذا الإطـلاق، وذلك بمعرفـة معنـى لفظة التبشير كما جاءت في القرآن الكريم، فقد ورد في القرآن الكريم عدة معانٍ لمشتقات التبشير منها:

«بشير» و«مبشر»: بمعنـى مبشر بالخيـر كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۖ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [البقرة: 119]، وقولـه تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الإسراء: 105].

و«يبشر»: بمعنـى يخـبر بخبـر سارٍ كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَـٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ [الإسراء: 9]، والخبر السار هنا هو الثواب يوم القيامة وجنات النعيم. و«مبشراً»: بمعنى واعداً بالثواب مـن عند الله كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الفتح: 8]([3]).

أما«مبشراً» في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّـهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ [الصف: 6]، فتعنـي أن عيسى عليه السلام رسول مـن الله لبني إسرائيل، جاءهم في حال تصديق لما تقدمه من التوراة، وفي حال تبشيرٍ برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، وهو محمد صلى الله عليه وسلم([4]).

وأما«مبشرين» في قوله تعالى: ﴿ فَبَعَثَ اللَّـهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة: 213] فإنهـا جمع مبشر وهو من يعلم الناس الخير، وتبشير الرسل هنا هو إعلامهم لأقوامهم بالخير([5]).

أي إن التبشيـر يمكـن أن يكـون تبشيراً بدين صحيح، وعقيدة سليمة، جاء بها الأنبياء والرسل عليهـم السلام من ربهـم، ولا نقول التبشير بالدين على إطلاقه إلا إذا قصد بالدين الدين الإسلامي.

وعلى ذلك فإن كلمة التبشير أو المبشر لا يمكن أن تنطبق على ما يفعله النصارى مـن حملات معاديـة للإسلام داعيـة للنصرانية، وذلك لأن التبشير كما سبق هو إخبار بخير أو إخبار بخبر سار، وما يقومـون بـه لا يحمل أي خيـر أو سرور، بل يحمل الشر والعداوة الظاهرة للإسلام والمسلمين وللبشرية جمعاء.

وتـرى الباحثة أنه يمكن أن يطلق لفظ التبشير على دعوة النصارى لدينهم فقط عندما كلفوا بنشر دعوة عيسى عليه السلام، والتي تُعْلِمُهم بالعقيدة الصحيحة، وتبشرهم بالنبي الجديد، لا التبشير بما وضعه بولس في عقيدتهم من تحريف، وما أقرته المجامع من وثنيةٍ تخل بأركان العقيدة الصحيحة، إضافة إلى أن المدة الزمنية التي كلفوا بالعمل خلالها بالتبشيـر انتهـت ببعثة المُبَشَّر بـه وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي انتقلت إليه مهمة التبشير بالإسلام للعالمين، وليس لبني إسرائيل، كما كانت بشارة عيسى عليه السلام.

وخلاصة ما سبق أن التبشير المطلق يحمل الخير بكل معانيه، وما يقوم به المنصرون يناقض ذلك الخير، فلا يمكن أن يُطلق على أعمال المنصرين بأنها تبشير بأي حال، بل يطلق عليها تنصير، وهذا يتطلب توضيح معنى التنصير، ومن ثَم توجيه إطلاق بعض مفكري المسلمين للفظ التبشير على أعمال المنصرين.

*  *  *

* ثانياً ـ مفهوم التنصير:

أ ـ معنى التنصير لغة:

نَصَّر ينصر تنصيراً، ونَصَّر الشخص تنصيراً: جعله نصرانياً، وتَنَصَّر يَتَنَصَّر تنصيراً، وتَنَصَّر: دخل في النصرانية، والتَنَصُّر: الدخول في النصرانية([6]).

إذن التنصير يعني: الإدخال في النصرانية، ولقد وردت لفظة ينصرانه مثنى ينصر في الحديث الشريف، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة. فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه…» ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: واقـرؤوا إن شئتـم قولـه تعـالـى: ﴿فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّـهِ [الروم: 30]([7]) وتعنـي تغييـر الفطرة التـي فطر الله الناس عليها، ولأن اللفظ عام، فإنه يمكن أن يدخل فـي مفهومـه تنصيـر أبنـاء المسلمين علـى أيدي آبائهم، بإرسالهم إلى المؤسسات التنصيرية التعليمية المختلفة، ليتربوا وينشأوا نشأة مبنية على أسس نصرانية، وبهذا يكونون قد ساهموا في تنصير أبنائهم دون أن يشعروا، حتى لو لم يدخلوهم في النصرانية.

ب ـ معنى التنصير اصطلاحاً:

بعد الاطلاع على المعنى اللغوي للتنصير يتبين أنه يدور حول إدخال غير النصارى في النصرانية، وهنا قبل ذكر معنى التنصير اصطلاحاً يجب الرجوع إلى ذكر معنى التبشير اصطلاحاً عند بعض المفكرين المسلمين للتدقيق والمقارنة.

1 ـ تعريف التبشير اصطلاحاً:

ينقسم المفكرون المسلمون من حيث تعريف التبشير إلى قسمين:

القسم الأول ـ من أطلق لفظ التبشير على مفهوم التنصير، ومن هذه الإطلاقات:

التبشيـر: «هو حركة دينية سياسية استعمارية، بدأت بالظهور إثر فشل الحروب الصليبية، بغية نشر النصرانيـة، فـي الأمـم المختلفة، في دول العالم الثالث بعامة، وبين المسلمين بخاصة. بهدف إحكام السيطرة على هذه الشعوب»([8]).

والتبشيـر: «هو الأعمال التي يقوم بها المنصرون لتنصير الشعوب غير النصرانية هذا فيما سبق، والآن فإن التبشير هو الأعمال التي يقوم بها المنصرون لإخراج المسلمين عن دينهم ولو إلى الإلحاد والكفر بكل دين»([9]).

والتبشير: «هو مؤسسة تنصيرية تعتمد على منهجية متكاملة ذات شعب متعددة: اجتماعيـة، وسياسيـة، واقتصادية، وفكرية، وتعليمية، وإعلامية، وهدفه الأساسي هو نشر العقيدة المسيحية فـي الأوساط الإسلاميـة وغيرهـا، أو تغريـب الإنسان المسلم، وتشكيكه في عقيدته الإسلامية، وخلق روح التمرد واللادينية فيه إذا فشل في إقناعه بعقيدة التثليث»([10]).

ويـرى صاحب التعريف الأول أنه لا مانع من استعمال كلمة التبشير دلالة على التنصير، لأن كلمة التبشير هـي لسان المنصريـن وعقيدتهـم([11])، وهذا فيه مغالطة، فها هم المنصرون يُعَرِّفون التنصير بأنه: «إيصال الأخبار السارة إلى الناس، بهدف إقناعهم بأن يقبلوا المسيح رباً مخلصاً»([12]). وإيصال الأخبار السارة يعني التبشير، فهل يعقل أن نتكلم بكلامهم هذا، فالأولى أن نسمي الأشياء من منطلق لساننا، اللسان العربي، ومن منطلق عقيدتنا، العقيدة الإسلامية، وليس من منطلق لسان الآخرين أو عقيدتهم، فهل إبلاغ الناس بربوبية بشر هو تبشير؟ وهل يجوز للمسلم أن يسمي عيسى عليه السلام  بالرب أو المخلـص أو الفادي وما إلـى ذلك مـن مسميات، أو أن يتداول المسلم هذه الأسماء في كتاباته لمجرد أن من يعتقد بصحتها وهم النصارى يطلقون عليه هذه الألقاب، أو لأنهـا جزء مـن عقيدتهـم؟ فهذا فيـه مخالفة للعقيدة الإسلامية، والأجدر بنا أن نسمي الأشياء وفق ما جاء فـي القرآن الكريم، والسنة المطهرة ومعاجم اللغة الصحيحة التي لم تتأثر بالثقافات الغريبة عن الدين الإسلامي.

يتبين مما سبق أن في إطلاق لفظ التبشير على المخطط التنصيري المحكم، والذي يستهـدف إخـراج المسلمين وغيرهـم مـن دينهـم وإدخالهم في النصرانية، أو إبقاءهم بلا دين فيه مجانبة للصواب، إذ الأولى أن يقال عنه تنصير.

القسم الثاني ـ مَن بَيَّن أن التبشير هو التنصير، ومن هذه الإطلاقات:

التبشير: «تعني التنصير بكل معنى الكلمة»([13]).

والتبشير: «هو التعبير النصراني لحملات التنصير»([14]).

وقـد ذكر صاحـب التعريف الأول أن الإسلام أحـق أن يوصف بالتبشير لأنه ببساطة دعوة خاتم الأنبياء والمرسلين، ورسالته عامة، وتامـة، ولن تكون كذلك دون تبليـغ أو تبشير، ويعتبر أيضاً أن لفـظ التبشيـر قـد اتخذه الآخرون للدعوة إلى دينهم، واستعملـوه بذكـاء، فجعلـوه جزءاً مـن حياتهـم وأقاموا المؤسسات والكليات لخدمة دعوتهم، ولم يبخلوا عليها بما تحتاج إليه من نفقات، وقد جاء حديثه في معرض الدفاع عن إسلامية التبشير وأنه وظيفة المسلمين حقيقة([15]).

ويـرى صاحـب التعريف الثاني أن القائمين على حملات التنصير هم النصارى، وأن هذه المصطلحات قد استخدمها المسلمون الأوائل، وتخلى عنها المسلمون فيالعصر الحديث، أي أنهم استبدلوا لفظة النصارى بالمسيحيين ولفظة التنصير بالتبشير، ويذكر أن الكثير من الكتاب استخدم مصطلح التنصير كما استخدمه النصارى، وقد جاء حديثه أيضاً في معرض الإصرار على استخدام لفظ التنصير بدلاً من التبشير لبيان الحقيقة([16]).

وهناك من يجعل التبشير لفظاً عاماً وأنه يعني:

«الدعوة إلى عقيدة من العقائد»([17]).

ويعتمـد في إطلاقه هذا على قوله تعالى على لسان عيسى عليه السلام: ﴿ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6].

وهذا التعريـف غير دقيق، فالتبشير في الأصل اللغوي لا بد وأن يحمل خيراً أو خبراً ساراً، والدعوة إلى عقيـدة ـ أي عقيدة أو مجرد عقيدة ـ لا تحمل هذه المعاني، فقد تكون هذه العقيدة المبشَّر بها عقيـدة منحرفـة، أو محرفـة، أو تدعو إلى مخالفة شرع الله، الذي ضمَّنه الرسالة الخاتمة، وهي الإسلام، كما أن دعوة عيسى عليه السلام كانت دعوة صحيحة في وقتها قبل أن تحرف، وكانت من عند الله سبحانه وتعالى، لذلك يمكن أن يقال عن التبشير اصطلاحاً:

التبشير: هو إبلاغ الآخرين بالأخبار السارة بالمفهوم العام.

والدعوة إلى عقيدة صحيحة على يد رسول مكلف من قبل الله سبحانه وتعالى، وإبلاغ قومه بها. بالمفهوم الخاص.

وبالمفهـوم الاصطلاحي الشرعـي، لما كانـت هذه المعاني لا تنطبق الآن إلا على دعوة الإسلام العظيم العالمية، فإنه يمكن أن يقال:

التبشير هـو: دعـوة المسلمين للأمم والأقوام غير المسلمة في العالم إلى الإسلام، منذ بعثه محمد ﷺ إلى قيام الساعة بالحكمة والموعظة الحسنة.

2 ـ معنى التنصير اصطلاحاً:

من التعريفات التي وضعت للدلالة على التنصير:

التنصـير: «هـو حركة استعمارية صليبية حاقدة غاية ما تريده هو وطأ([18]) أعناق المسلميـن وإذلالهم، نظراً لما ورثـوه عن آبائهم وأجدادهم من حقد دفين تجاه الإسلام والمسلمين»([19]).

وهذا التعريـف هـو أقرب إلـى شرحٍ لدافع التنصير من بيان لحقيقته، مع عدم شموليته.

التنصير: «هو الدعوة إلى النصرانية ومحاولة دفع الناس الدخول فيها بشتى الوسائل ومختلف المغريات»([20]).

وهذا التعريف بيّن إلا أنه لا يشمل الهدف الحالي للتنصير، وهو إخراج المسلمين من دينهم، ولا يشمل النشأة والدافع.

التنصيـر: «حركـة دينيـة سياسية استعماريـة بـدأت بالظهور إثر فشل الحروب الصليبية بغية نشر النصرانية بين الأمم المختلفة في دول العالم الثالث بعامة وبينالمسلمين بخاصة بهدف إحكام السيطرة على هذه الشعوب»([21]).

وهـذا التعريف شبـه متكامـل، لاحتياجـه إلى ذكر الاستهداف الحالي لإخراج المسلمين من دينهم فقط.

هذا ما وقـع بيـن يـدي الباحثة مـن تعريفات للتنصير على قدر الجهد المبذول، ولا أدعي أنني قمت بحصرها جميعاً، ومـع ذلك فلا يمكـن تجاهل التعريفات الواردة تحت مسمى التبشير، وترى الباحثة أنه يمكن أن يوضع تعريفاً واحداً للتنصير يجمع بين هذه التعريفات وهو:

التنصيـر: هـو حركة صليبية سياسية استعمارية منظمة، تتخذ من الدين ستاراً، تهدف إلى إخراج المسلمين وغيرهـم مـن دينهـم، وإدخالهم في النصرانية، أو تغريبهم، ودفعهم إلى الإلحاد، واللادينية، واللاأخلاق، وفـق منهـج مدروس متكامل قائم على استغلال جميع الوسائل المادية والمعنوية المتاحة في جميع مجالات الحياة.

ثالثاً ـ مفهوم النصرانية:

لما كان التنصير هو الدعوة إلى النصرانية، فما هي النصرانية التي يدّعي النصارى المنصرون أنهم يبشرون بها؟

‌أ ـ                       النصرانية لغة:

النصرانية والنصرانة واحدة النصارى، ونصرانة تأنيث نصران، ولكن لم يستعمل نصـران إلا بيـاء النسب فقيل رجـل نصراني وامرأة نصرانية، والنصارى تبع المسيح، والواحد نصراني منسوب إلى الناصرة على غير قياس، والنصرانية دين النصارى([22]).

‌ب ـ                  النصرانية اصطلاحاً:

يرى البعض ضرورة التفريق بين مفهومي النصرانية والمسيحية، فالنصرانية يقصد بها الدين السماوي الذي أُوحي إلى عيسى عليه السلام، وهو دين قائم على التوحيد، وعلى أن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام نبي، والمسيحية يقصد بها مجموع التعاليم التي وضعها بولس، والتي بنيت على التثليث الهندي، ثم نسبت إلى المسيح الذي جعل إلهاً([23]).

وفي هذا الكلام نظر، إذ أن الله سبحانه وتعالى خاطب النصارى الموجودين في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم بلفظ النصارى ولم يخاطبهم بلفظ المسيحيين، ومع أن التحريف كان واقعاً في كتبهم آنذاك، إلا أن الخطاب القرآني لم يفرق بين النصارى أتباع عيسى عليه السلام أصحـاب الدعـوة الصحيحة، وبيـن النصارى زمـن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن القرآن صالح لكل زمان ومكان، فما أطلقه من لقب على النصارى فنحن أولى بإطلاقه عليهم مما أطلقوه هم على أنفسهم.

وسيأتـي بيان تحريف هـذا الدين وعـدم صلاحـه كعقيـدة صحيحة تصلح أن يدعى لها الناس. وأفضل تعريف للنصرانية هو:

النصرانيـة: «هي الرسالة التي أنزلت على عيسى عليه الصلاة والسلام، مكمّلة لرسالة موسى عليه السلام، ومتممة لما جاء في التوراة من تعاليم، موجهة إلى بني إسرائيل، داعيـة إلـى التوحيد والفضيلـة والتسامح، ولكنها جابهت مقاومة واضطهاداً شديداً، فسرعان ما فقدت أصولها، مما ساعد على امتداد يد التحريف إليها، فابتعدت كثيراً عن أصولها الأولى لامتزاجها بمعتقدات وفلسفات وثنية»([24]).

رابعاً ـ العلاقة بين النصرانية والتنصير:

تبـدو العلاقة جليـة وواضحة بين النصرانية والتنصير، إذ إن النصارى يقومون بدعـم حملات التنصيـر بكل طاقاتهم وإمكاناتهم المادية والبشرية لتحقق أهدافها، وفي المقابل فإن حملات التنصير تدعو لاعتناق النصرانية وتروج لمعتقداتها.

ولمـا كانـت النصرانيـة ديانـة ذات أصل سماوي ثم حرفت بأيدٍ بشرية، فإن كل ما ينبثق عنها غير صحيح، لذا فإن دعـوة التنصير التي ينعق بها المنصرون ليس لها سند عقائدي صحيح، وبالتالي فهي دعوة استغلالية، لا تعتمد على الدين إلا كستار.

كما أن النصرانية الحقة جاءت كدعوة سماوية خاصة لبني إسرائيل ولم تكن عالمية في يوم من الأيام، على عكس التنصير الذي يحاول أن ينشر دعاته سموم عقيدتهم أينما حَلُّوا.

ومعلوم أن النصرانية بالرغم من أنها محرفة إلا أنها ديانة يعتقد بها الملايين من سكان العالم على اختلاف طوائفهم، الأمر الذي يؤدي إلى تناحرهم واقتتالهم دائماً على أصول عقيدتهم وطقوسهم الدينية، إلا أن هذه الملايين تتحد عندما تتحول الهجمة إلى الإسلام، فَتُرصد الأموال، وتوضع الخطط، ويُرسل المرسلون إلى دول العالم الإسلامي لإحكام قبضتهم عليه في غفلة من ولاة الأمر، ونقص من التوعية بين العامة.

 

*  *  *

 



([1])   انظر: مفردات ألفاظ القرآن: الراغب الأصفهاني ـ تحقيق: عدنان داوودي ـ دار القلم ـ دمشق ـ الطبعة الثالثة ـ 1423ﻫ ـ 2002م ـ ص: 125، ومختار الصحاح: محمد بن أبي بكر الرازي ـ ترتيب: محمـود خاطـر ـ دار الفكـر ـ بيروت ـ د. ط ـ د. ت. ن ـ ص: 53، ولسان العرب: ابن منظـور ـ تحقيق: عامر حيدر ـ مراجعة: عبد المنعم إبراهيم ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ الطبعة الأولى ـ د. ت. ن ـ 4/ 70، والتعريفات: علي بن محمد الجرجاني ـ مكتبة لبنان ـ =

 =     بيروت ـ د. ط ـ 1990م ـ ص: 52، والبستان: عبد الله البستاني ـ مكتبة لبنان ـ بيروت ـ د. ط ـ 1992م ـ ص: 67.

([2])   انظر: المعجم العربي الأساسي: إعداد جماعة من كبار اللغويين العرب ـ بتكليف من المنظمة العربية للتربيـة والثقافة والعلوم ـ جامعة الدول العربية ـ تونس ـ د. ط ـ 1408ﻫ ـ 1988م ـ ص: 156، 157.

([3])   انظـر: معجـم ألفـاظ القـرآن الكريـم: مجمع اللغة العربية ـ الإدارة العامة للمعجمات وإحياء التراث ـ القاهرة ـ الطبعة الثانية ـ 1409ﻫ ـ 1989م ـ 1/ 134، 135.

([4])   انظـر: معاني القرآن وإعرابه: الزجـاج أبـو إسحاق إبراهيم بن السرَّي ـ شرح وتحقيق: د. عبد الجليل شلبي ـ عالم الكتب ـ بيروت ـ الطبعة الأولى ـ 1408ﻫ ـ 1988م ـ 5/ 167.

([5])   انظر: معجم ألفاظ القرآن الكريم ـ 1/ 136.

([6])   انظر: مختـار الصحاح: الـرازي ـ ص: 662، ولسان العـرب: ابـن منظـور ـ 5/ 248، وتاج العروس من جوهر القاموس: السيد محمـد مرتضـى الحسيني الزبيـدي ـ تحقيق: عبد العليم الطحاوي ـ دار الهداية ـ الكويت ـ 1394ﻫ ـ 1974م ـ ص: 230، والمعجم العربي الأساسي ـ ص: 1199.

([7])   رواه مسلم ـ كتاب القدر ـ باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين ـ حديث رقم 3054 ـ مختصر صحيح مسلم: أبو الحسن مسلم بن الحجاج =

 =     القشيري النيسابوري ـ اختصره ووضع حواشيه: أحمد شمس الدين ـ دار الكتب العلمية ـبيروت ـ الطبعة الأولى ـ 1419ﻫ ـ 1998م ـ ص: 586.

([8])   التنصير التحدي والمواجهة: د. أحمد عبد العزيز السايح ـ منار الإسلام ـ السنة السابعة عشرة ـ العدد التاسع ـ رمضان ـ 1413ﻫ ـ يناير ـ 1993م ـ الإمارات العربية المتحدة ـ ص: 80.

([9])   أجنحـة المكـر الثلاثة وخوافيها التبشير ـ الاستشراق ـ الاستعمار، دراسة وتحليل وتوجيه: عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني ـ دار القلم ـ دمشق ـ الطبعة السابعة ـ 1414ﻫ ـ 1994م ـ ص: 50.

([10])   التبشير والمسلمون في أفريقا السوداء: السيد عبد الله باه ـ الدورة العاشرة لمؤتمر المجمع بعنوان: المسلمون وحوار الحضارات في العالم المعاصر ـ صفر ـ 1416ﻫ ـ تموز ـ 1995م ـ المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية ـ مؤسسة آل البيت ـ عمان ـ د. ط ـ 1996م ـ ص: 242، 243.

([11])   انظر: التنصير التحدي والمواجهة: د. أحمد السايح ـ ص: 79.

([12])   انظر: التنصير خطة لغزو العالم الإسلامي ـ الترجمة الكاملة لأعمال المؤتمر التبشيري الذي عقد في مدينة جلين آيري بولاية كولورادو في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1978م ـ منشورات مركز دراسات العالم الإسلامي ـ بيروت ـ د. ط ـ د. ت. ن ـ ص: 889.

([13])   التبشير الإسلامي لا التبشير النصراني: عبد الفتاح حسين حسن الزيات ـ المجلة العربية ـ العدد: 186 ـ ـ رجب ـ 1413ﻫ ـ ديسمبر/ يناير ـ 1992م/ 1993م ـ الرياض ـ ص: 90.

([14])   التنصيـر مفهومـه، وأهدافـه، ووسائله وسبـل مواجهته: د. علي إبراهيم النملة ـ دار الصحوة للنشر والتوزيع ـ القاهرة ـ د. ط ـ 1413ﻫ ـ 1993م ـ ص: 17.

([15])   انظر: التبشير الإسلامي لا التبشير النصراني: الزيات ـ ص: 90.

([16])   انظر: التنصير: النملة ـ ص: 9، 17.

([17])   التبشيـر والتنصيـر: أ. د. البـدراوي زﻫران ـ المنهل ـ العدد: 510 ـ جماد الآخر ـ 1414ﻫ ـ نوفمبر/ ديسمبر ـ 1993م ـ جدة ـ ص: 12.

([18])   الصواب: وطء.

([19])   التنصير: حقيقته أهدافه ضرورة مواجهته: د. زينب عبد السلام أبو الفضل ـ منار الإسلام ـ العدد الثاني ـ السنة العشرون ـ صفر ـ 1415ﻫ ـ يوليو ـ 1994م ـ ص: 105.

([20])   خطـر التنصيـر على العالم الإسلامي: د محمد علي عثمان الفقي ـ المجلة العربية ـ العدد: 187 ـ شعبان ـ1413ﻫ ـ يناير/ فبراير ـ 1993م ـ الرياض ـ ص: 62.

([21])   الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة: الندوة العالمية للشباب الإسلامي ـ إشراف وتخطيط ومراجعة: د. مانع بـن حمـاد الجهني ـ دار النـدوة العالميـة للطباعة والنشر والتوزيع ـ الرياض ـ الطبعة الثالثة ـ 1418ﻫ ـ 2/ 675.

([22])   انظـر: لسان العرب: ابن منظور ـ 5/ 248، وتاج العروس: الزبيدي ـ ص: 230، والبستان: البستاني ـ ص: 1103.

([23])   انظر: التنصير: د. النملة ـ ص: 18.

([24])   الموسوعة الميسرة ـ 2/ 674.

الموضوعات