جاري التحميل

عصر الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي

عصر الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي

كتب عن هذا الموضوع الدكتور ابراهيم حمود إبراهيم في كتاب الإمام ابن ناصر الدين  إتحاف السالك برواة الموطأ عن الإمام مالك والذي صدر عن دار المقتبس في طبعته الأولى سنة 1439هـ - 2018م ، فقال :

* المطلب الأول ـ الناحية السياسية:

 عاصر ابن ناصر الدين الدمشقي دولـة المماليك في مرحلتهـا الثانية والتي تسمى (دولة المماليك البرجية أو الشركسية([1])) والتي حكمت من سنة(784 ﻫ) حتى سنة (923ﻫ) عندما سقطت دولتهم على يد الأتراك العثمانيين.

كانت دولة المماليك قامت على أنقاض الدولة الأيوبية عندما وصل قادتها الذين كانـوا عبيداً عند القادة الأيوبيين إلى الحكـم بزعامـة سـيف الديـن قطـز، وسميت الدولة في هذه المرحلة بدولة المماليك البحرية، وقد حكمت هذه الدولة بلاد مصـر والشام والحجاز وكانت عاصمتها مدينة القاهرة، وقد تميزت المرحلة الثانيـة التـي عاصرهـا ابـن ناصـر الدين الدمشقي بكـثرة الحكام المتعاقبين على السلطـة نتيجـة كثـرة الانقلابات والاضطرابات السياسية، وكانت هذه الدولة تحارب عدويّن شرسـين ظهـرا على مسـرح الأحداث في بلاد الشام وهم المغول والصليبيون([2]).

 وقد تعددت معاركهم مع المغول بدءاً بمعركة عين جالوت سنة(658ﻫ) والتي انهزم فيها المغول وتراجعوا نحو الشرق. لكنهم ما لبثوا أن عادوا وهاجموا مدن الشام.

أمـا الصليبيون فقد كانوا محتلين لساحـل بلاد الشـام منـذ العصر الأيوبي وقد دخل المماليك معهم في عدة معارك انتهت بتحريـر السلطان الأشرف خليل لآخر معاقلهم المحتلة بعكا سنة (690ﻫ)([3]).

 أما عن معاناة مدينة دمشق مع المغول فكانت كبيرة، فقد تعرضت لهجوم المغول أو التتار عدة مرات منها حملة قازان سنة (699ﻫ) التي استباح فيها مدينة دمشق وكثر فيها القتلى حتى قيل إنّ عدد القتلى في هذه الحملة وصل إلى مائة ألف، وقـد عرض المؤرخ ابن كثير لهـذه المأساة ووصفهـا وصفاً حيـاً في كتابه «البداية والنهاية»([4]).

ثم كانت حملـة تيمورلنـك (ت: 807ﻫ) على دمشق سنـة (805 ﻫ)، وما خلفتـه من دمـار وخـراب، فعندمـا سيطـر على حلب عاث فيها فساداً حتى إنّ المساجـد والطرقات امتـلأت بجثث القتلى، وهـدم الكثير من المنـازل والمساجد فيها([5]), وفي أثـناء سيره نحو دمشق أصيب الناس فيها بذعر شديد وهرب كثير من سكـان القرى ومدينة دمشق إلى القدس ومصر، ولما وصل تيمورلنك دمشق حاصرها مدة، وكان حينها السلطان فرج بن برقوق (ت: 815ﻫ)قد جاء من مصر وعسكـر بجـوار دمشق إلا أن أحداثاً داخلية في القاهـرة جعلته يعود، ويدخل تيمورلنك المدينة بالحيلـة ويعمـل فيهـا الخـراب والدمار، وما قام به جنوده من نهب وسلـب وقتل، ثمّ خرج منها واصطحب معـه أمهر صناعها وحرفييها إلى عاصمتـه سمرقند مما أدى إلى تراجـع هـذه الحرفـة في المدينـة، ولكن المصـادر تتحدث عن دفاع أهل دمشـق وبلائهـم الحسن في صد هجوم تيمورلنك قبل أن يدخلها([6]).

 وكان الحدث الأهم على الصعيد السياسي والعسكري في هذه المرحلة فتح جزيرة قبرص على يد السلطان الأشرف برسباي الدقماقي الظاهري (ت 841ﻫ)سنـة (829 ﻫ) وضـم الجزيرة لدولـة المماليك، ثم محاولات السلطان جقمق بن عبد الله (ت: 857) فتح جزيرة رودس ولكن دون نجاح.

 وكانت ظاهرة قتل السلاطين والأمراء والانقلابات العسكرية قد كثرت في عهـد المماليك الشراكسـة، حتـى إن السلطان قانصوه الغوري (ت: 922ﻫ) ـ أقوى أمراء المماليك في عصره ـ كان يمتنع عن السلطنة ويبكي عندما طُلب إليها خوفاً من القتـل، ولكنهم جروه لكرسي السلطنة وأجلسوه عليه ووافق مكرهاً وشرط عليهم ألا يقتلوه وأن يصرفوه بالمعروف إذا أرادوا عزله([7]).

وكانت حالة الضعف السياسي والعسكري قد سيطرت على مظاهر الدولة في عهدهـا الأخـير، من عجز ميزانيـة الدولـة، وكثرة المفسدين فيها، والثورات الداخليـة، بالإضافـة إلى جيش ضعيف قـد اهتز كيانـه، كل هذا أدى الى سقوط هذه الدولـة أمـام السلطان العثماني سليم الأول بن يزيد الثاني (ت: 926ﻫ) بعد معركتي مـرج دابـق سنـة (922ﻫ) ومعركـة الريدانيـة ودخول السلطـان سليم القاهرة سنة (923ﻫ).

*  *  *

* المطلب الثاني ـ الناحية الاجتماعية:

شهد العصر المملوكي حالات اجتماعيـة صعبـة على الشعب، فتتالت على البلاد الأوبئة والمجاعات حتى إن ابن عماد الدين الحنبلي فـي «شذرات الذهب» يشير إلى أنّ الناس في سنة (777ﻫ) وهي سنة مولد ابن ناصر الدين الدمشقي قد أكلوا الميتة والقطط والكـلاب وباع كثـير من المقلين أولادهم، ومات الكثير من الناس حتى إنهم لكثـرة الموتى كانوا يدفنون العشرة والعشرين في القبر الواحد بغير غسل ولا صلاة، ودام ذلك في البلاد الشامية ثلاث سنين([8]).

ثم إنّ ضعف الدولة السياسي أدى في هذا العصر إلى حوادث واضطرابات عنيفة، فقـد أصبحت أخبار سرقة الأسواق على أيدي عصابات كبيرة العدد من الفرسان والمشاة، أصبحت مادة ثابتة في مصادر ذلك العصر، بالإضافة إلى تعديات البدو على ضواحي المدن.

أما عن حالات المجاعة والأوبئة والفتن والمنازعات السياسية التي كثرت وعمت عصر المماليك الشراكسة، فقـد أدى إلى نتائج سيئة على عدة جوانب منها النقص المتزايد في أعداد السكان بسبب كثرة الوفيات، وارتفاع الأسعار، وتفشي الظلم واحتكار الأسعار([9]). 

 منها مثلاً ما ذكره ابن إياس عن سنـة (694ﻫ) فيما يتعلـق عـن حـدوث مجاعـة رهيبة عقب هـبوط منسوب نهـر النيل «فقد كثُر الشح، ونقصت الأموال واشتد البكاء وعظم الضجيج في الأسواق من شدة الغلاء، ووصل الأمر بالناس إلى أنهم أكلوا القطط والكلاب والحمير والبغال...».

ومن مظاهر الحياة الاجتماعية في عصر المماليك الاحتفالات بالأعياد الدينية كليلـة الإسـراء والمعراج وليلـة النصف من شعبان، والمولد النبوي الشريف، فيشكل يميل إلى الفخامة والعظمة يتناسب مع حياة الدولة في حالات البذخ والرفاه، ثمّ إنهـا كانت تتقـلص وتفقـد بهجتهـا في حالات الضعـف السياسي والتدهور الاجتماعي والأمني وفي الأزمات الاقتصاديـة والأوبئة وساد مكان ذلك الخوف والفزع وانعدام الأمن، منها مثلاً ما ذكره ابن الصيرفي عن سنة (841ﻫ) أنّ عيد الفطر دخل على الناس وهم في نكد وجزع وقلق وهم...)([10]).

*  *  *

* المطلب الثالث ـ الناحية الثقافية والعلمية:

انتشرت في هذا العصر المؤسسات التعليمية من مدارس ومساجد وخوانق وأربطة وزوايا وأسبلة، وكان يتم بها تعليم الطلبة والإنفاق عليهم، وبالتالي كان يتـم تزويـد المكتبات الملحقة بتلك المؤسسات بكـل الكتب المطلوبـة، وكان يتم الإنفاق على ذلك كله من الأوقاف المرصودة على تلك المؤسسات، إذ كانت العادة أن يقوم السلطان أو أحد الأمراء ببناء تلك المؤسسة ويوقف عليها الأوقاف مثل الأراضي الزراعيـة ومن ريعها يتم الإنفاق على تلك المؤسسة ونشاطها التعليمي والخيري([11]).

وكان يتم توزيع الطلاب على ثلاث مراحـل: الأولى مرحلـة أوليـة تكون لتعليم الصبيان في المكتب، ومرحلة متوسطة تكون في المساجد أو المدارس وتكون للصبيان الذين تجاوزوا العاشرة من عمرهم، ثم المرحلة العليا وتكون في المدارسوبعض المساجد حيث تعقد فيها الحلقات والمجالس العلمية المتنوعة، وتمنح فيها الإجازات لطلبة العلم الذين تم اختبارهم من قبل علمائهم([12]).

التعليم وحركة التأليف:

 تتميز فترة ابـن ناصـر الديـن الدمشقي بأنها فترة اهتمام بالتعليم وحركة التأليف وذلك من خلال إشراف الدولة على التعليم والتدريس، وكان ثمةشعور عام بأن العمل في حقـل الفقـه هو العمل العلمي الأصيل، ومن الطبيعي في هذا العصر أن ينصرف الناس إلى الفقـه، فقد أُثر القول بأن العلماء هم حماة الشريعة، وفي الفترة التي نتحدث عنها كـان العلماء أصحاب نفوذ كبير، فقد كانوا يحتلون الوظائف الدينية: فمنهم القاضي والمحتسب والمفتي والمدرس والإمام والخطيب والقارئ، وبذلـك استطاعوا السيطرة على التعليم، وكان إليهم النظر في القضاء، وإليهـم تـعود الفتوى، وكـان ثمـة عدد كبير من الوظائف الدينية وقفاً عليهم، فكتّاب الإنشاء ونظّار المؤسسات المختلفـة، كالبيمارستانات والجيـش كانـوا من العلماء([13]). وقـد كانت دمشق في أيام المماليك تعج بالعلماء، فقد هاجروا إليها من الجزيرة وبغداد وفلسطين، وتقبلتهم دمشق مشجعـة وأفاءت عليهم من خيراتها وأمنها، ومنحتهم الفرصة لينموا اهتمامهم العلمي([14]).

أما عن سبب ازدهار العلوم في هذا العصر بشكل عام فيرجع ذلك للأسباب التالية:

ـ وقوع كثير من بلدان المسلمين في يد التتار، مما كان له الأثر الكبير في دفع العلماء والمفكرين للعودة إلى العلم الشرعي لتحصين المسلمين من الداخل.

ـ مقتـل العلماء والأدباء وضيـاع الكتب، مما سبب ردة فعـل للعودة لنشر التراث الإسلامي وإحياء البحث العلمي.

ـ هجرة العلماء إلى بـلاد الشـام ومصـر لما تنعمان بـه من استقرار سياسي أكثر من غيرهما.

ـ إحياء الخلافة العباسية في القاهرة بعد سقوط بغداد بيد المغول.

ـ الغيرة الدينية عنـد بعض الحكام وتعظيمهم للعلم والعلماء، فمثلاً كان السلطان الناصر محمـد بن قلاوون يحضر مجلس العلم عند القاضي بدر الدين بن جماعة بالقاهرة سنة 724ﻫ، ويسمع منه عشرين حديثاً، ثم يفرق الذهب والفضة بعد انتهاء المجلس على الفقراء([15]).

ـ شعور العلماء بواجبهم المتمثل في توعية المسلمين عن طريق الدروس والتأليف.

ـ إنشـاء دور التعليم والمكتبات الكثيرة ورصـد الأوقاف لرعايتها([16]). كما كان نظـام التعليم في هذا العصـر يحظى بعناية وتنظيم دقيق من ناحية التدريس لعلوم الفقـه والشريعة، ونظام الإجازات المتبع آنذاك عند العلماء، كان من نتيجة ذلك ازدهار العلوم وإقبال الناس عليها([17]).

أما عن طبيعة المؤلفات في تلك الفترة: فقد تأثرت المؤلفات المملوكية كغيرها من مؤلفـات العصور الإسلاميـة الأخرى بإرشادات وتوجيهات القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، إذ جاء في كثير من نصوصها الحث على العلم ورفع شأنه ورايتـه، كما جـاءت النصوص مبشرة بالثواب والأجر العظيم لمن يساهم في رفع لوائه، لذلك أصبحت محبة العلم والحرص على نشره ومدارسته جزءاً من كيانهم، فتسابقـوا في إنشاء مراكزه الكثيرة والمتنوعـة، وأمنوا لـه لوازمـه واستمراره. ولم تكن المؤلفـات التي صنفت في تلك الفترة مقصورة على الشروح والاختصارات للكتب السابقـة لهـم فحسب، بل صنفت مؤلفات اتصفت بالإبداع والابتكار والتجديد، فكـان من بينهـا المتون التعليمية، والمؤلفـات التي تدرس في مدارس ومساجد تلك الفترة. وقد تركز تصنيف العلماء في هذه الفترة بشكل كبير وواسع على العلوم الشرعيـة، لما لها من أثر في معتنقيها وقارئيها للتصدي عملياً للعدوان المتمثل آنذاك بالتتار والصليبيين والروافض الباطنيين الذين تعرضت بلاد الشام ومصر لعدوانهم. لـذا نشطت روح التأليف والتصنيف بتلك العلوم، ومما زادها نشاطاً المنافسة المحمودة بين علماء مصر والشام والبلاد الأخرى آنذاك، لترث كل واحدة منها إرث بغداد المدمرة في رعاية العلوم والثقافة الإسلامية، وإن كان حظ الشام منها راجحاً على من سواها.

ففي علـم القراءات وجدت مصنفـات كثيرة لعلماء كثيرين سـواء كانـت شرحاً لكتب سابقة أو تصنيفاً جديداً في هذا العلم؛ فإن علماء تلك الفترة قد مدوافي مداركـه باعاً، وتوغلـوا في مسائلـه علماً وطباعاً، فأتقنوا وعلموا تلاوة القرآن بالسبع والعشر. ورسخت أقدامهم في فهـم دقائقـه، حتى أصبحوا أئمة مقرئين، ومجودين متقنين ومن أهمهم ابن الجزري (شمس الدين أبـو الخير محمـد بن محمـد توفي 833ﻫ) والـذي يعـدُّ شيخ الإقراء في زمانـه وصاحـب كتـاب «النشر في القراءات العشر» حتى أنه بنى مدرسة للقرَّاء أسماها «دار القرآن»([18]).

وأما في علم التفسير فقد وجدت مصنفات عظيمة في تلك الفترة أهمها على الإطلاق كتاب «تفسير القرآن العظيم» للعلامة ابن كثير الدمشقي (ت: 774ﻫ)، إذ اعتبره المفسرون من أشهر ما دُوِّن في تلك الفترة([19]).

وأما علـم الحديث فنال العناية العظمى في دراسته والاهتمام به، إذ بلغ الذروة في الاتساع والكمال خاصة من حيث الرواية والدراية، ومن حيث دراسة السند والمتـن، وظهـر علماء كبـار في ذلك العلم، ما زالت مؤلفاتهم تدرس حتى الآن.

وفيما يتعلق بعلم الفقه، فقد نال عناية كبيرة في ذلك الوقت، ونبغ فيه عدد من العلماء، كان من أشهرهم: تقي الدين ابن قاضي شهبة أبو بكر بن أحمد المتوفى سنة 851 ﻫ، والذي يعد أشهر فقهاء عصره ومؤرخيه([20]).

وبالنسبـة لعلوم اللغة العربية، فقد حاز علم النحو قصب السبق على بقية علوم اللغة العربية في النتاج العلمي، وتأتي بعده بقية فروع هذا العـلم، مثل علم البلاغة والعروض، وعلم الأدب وفنونه من الشعر والنثر، ومن رواد هذاالعصر في هذا المجال ابن عربشاه (أحمد بن محمد) المتوفى سنة 854 ﻫ، وقد ولد في دمشق وبرع في ثلاث لغات العربية والفارسية والتركية([21]).

ومن أهم العلوم المزدهرة في تلك الفترة من حيث النتاج العلمي علما التاريخ والجغرافية، إذ ظهر فيهما كبـار العلماء المصنفين للتاريخ والجغرافية، حيث كان التأريخ موضع اهتمام وعناية في هـذه الفترة، وقد صنفت فيه كتب قيمة([22]). بينما كانت العلـوم الطبيعيـة مزدهرة أيضـاً مثل علـم الرياضيـات والفلـك والطـب والصيدلة، ومن أشهـر من برع في ذلك ابن الشاطر المتوفي سنة (777 ﻫ) والذي ترك عـدة مؤلفـات أهمهـا: «الأشعة اللامعـة في العمل بالآلة الجامعة»، و«النفع العام في العمل بالربع التام لمواقيت الإسلام»، و«الجبر والمقابلة»، و«غاية السول في تصميم الأصول»([23]).

وهكـذا نخلص من كل ذلك إلى وجـود نهضـة علمية عظيمة، تعتبر فترة إعادة لإحياء وتجديد التراث العلمي السابق واللاحق لهـا. وذلك بما ألفه العلماء وشرحوه واختصروه وحققوا فيـه وزادوا عليه. لقد ظهر في ذلك العصر أساتذة بارعون في فنون العلـم كافـة، تمتعوا بكفاءات علمية قوية، كانوا مرجعاً للخلق، بعد أن طـار صيتهـم العلمي في الآفاق، ولذلك تستحق هذه الفترة من الدراسة المزيد من البحـث والتنقيـب والدراسة، ونرجـو أن يأتي من الباحثين من يكمل ذلك.

بعد هذه المقدمة عن البيئة العلمية التي نشأ فيها ابن ناصر الدين الدمشقي يمكن القول: بأنه أفاد كثيراً من الحركة العلمية في عصره، فقد كانت تلك الفترة غنية بالعلماء والمؤلفات.

ومع أن السمة العامة للتأليف في عصـر ابن ناصـر الدين الدمشقي كانت الشرح والتعليق، إلا أنه استطاع أن يضع مؤلفاتٍ فيها ابتكار، وأن يأتي بأشياء جعلت من مؤلفاته فريدة في نوعها. ففي كتابه «إتحاف السالك» مثلاً فاق غيره من العلماء بأن ذكر أسماء رواة الموطأ عن مالك وجاء بنصوص تثبت هذا السماع، وهذا ما لم نجده في صنيع من صنف في الرواة عن مالك ممن سبقه أو جاء بعده.

والذي يطالـع مؤلفات ابن ناصر الدين الدمشقي المتنوعة التي زادت على السبعين مؤلفاً والتـي شملت معظم الفنون من فقه وحديث وتصوف وتراجم، يرى مدى تفوقه على أقرانه ومدى أهمية هذه المصنفات التي أزالت الغموض عن كثير من المواضيع وبينت الصواب.

لقد كان من العلماء المجددين في عصره، ولا أدلَّ على ذلك من مؤلفاته التي ملأت طباق الأرض وتلقاها الناس بالقبول.

وعاصـر ابن ناصـر الدين الدمشقي الكثير من أهـل العلـم وسمـع منهم وسمعوا منه، فمن أشهر علماء عصره الحافظ أحمد بن علي بـن حجـر العسقلاني (ت: 852ﻫ) الذي يعتبر خاتمة الحفاظ في علم الحديث، حيث ترك لنا الكثير منالمؤلفات النافعة في علم الحديث سواءً في علم الرجال كـ «الإصابة» و«التقريب» و«تهذيب التهذيـب» أو في شـروح الحديث كـ «شرحـه على صحـيح البخاري» الذي يعد من أفضل الشروح المصنفة على الصحيح، أو في علم مصطلح الحديثحيث قاده إلى منحى جعل كل من جاء بعده يعوّل على كلامه ويرجع إلى تحقيقاته بعد أن كان الناس تبعاً لابن الصلاح في ذلـك. ومرّ أن الحافظ ابن حجر أفاد من ابن ناصر الدين الدمشقي وقرأ عليه.

ومنهم أيضاً: أبو بكر ابن قدامة المقدسي (ت: 803ﻫ)، وأحمد بن أبي بكر بن عبد الهـادي المَقدسي الحنبلي (ت: 798ﻫ), وعمر بن رسلان البُلْقيني (805ﻫ), وعبد الرحيم بن الحسين الحافظ العراقي (806ﻫ) وغيرهم.

 وفي النهايـةِ تساؤلٌ هل كـان ابـن ناصر الدين الدمشقي متأثراً بعصره أم كان مؤثراً؟ الجواب بكل اختصار أنه كان مؤثراً في عصره ويظهر ذلك في موقفه من إنصاف ابن تيمية (أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني ت: 728 ﻫ) ممن كفرهأو تعصب له.

ففي عصر ابن ناصر الدين الدمشقي كان الناس أحد صنفين:

 الأول: متعصب للمذاهب كالعلاء البخاري وغيره.

والثاني: يمثل خروجاً عما كان عليه جمهور العلماء في بعض الجزئيات الفقهية أو في بعض المسائل العقديـة كابن تيمية، أدى ذلك إلى تطرف أصحاب المذاهب ضده حيث قـال العـلاء البخاري بتبديع ابن تيمية وكفره. فماذا كان موقف ابن ناصر الدين الدمشقي من هـذه الأحداث الفكريـة؟ لم يأخـذ ابـن ناصـر الدين الدمشقي موقفاً متطرفاً في عصره بل كان فاعلاً ومؤثراً، ففي هذه القضية لم ينجرف إلى التعصب المذهبي مع أنه كان شافعي المذهب، بل وقف موقفاً وسطاً فرد على من كفر ابن تيمية بالحجة والدليل.

فهذا يدل على أنـه كـان فاعلاً مؤثراً في عصره, وقد ذكرت مصادر ترجمته أيضاً أنـه تولى التدريس في دار الحديث الأشرفيـة، وهـذه منزلـة لا ينالها إلا ذو مكانة علمية عالية، إضافة لتوليه الإمامة والخطابة.

كـل ما سبق يقودنا للقول: إن ابن ناصر الديـن الدمشقي كان ابن عصره فقد كان مشاركاً في كل الأحداث التي حصلت، وكان له منها موقف ورأي.

*  *  *

 



([1])   المماليـك البرجيـة أو الشركسية: هم الذيـن اشتراهم السلطـان قلاوون من بلاد الترك والتتار ومعظمهم من الآص والجركـس الذين جعلهـم في أبراج قلعة القاهرة وسماهم البرجيـة. ينظـر: المماليك، السيد الباز العريني، دار النهضة العربية، بيروت: (ص56/ 57).

([2])   تاريخ المماليك في مصـر وبلاد الشام: محمد سهيل طقوش، دار النفائس بيروت،ط1/ 1418 ﻫ ـ 1997م: (ص 35 وما بعدها).

([3])   عصر سلاطين المماليك: قاسم عبـده قاسم، دار الشـروق، القاهرة، ط 1/ 1415ﻫ ـ 1994م، (ص 27 ـ 48).

([4])   ينظر: البداية والنهاية، ابن كثير، مكتبة المعارف، بيروت: (14/7وما بعدها).

([5])   ينظر: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ابن تغري بردي، وزارة الثقافة والإرشادالقومي، القاهرة: (12/223 وما بعدها).

([6])   عجائب المقدور في أخبار تيمور: ابن عربشاه:(ص56). وينظر: تاريخ المماليك في مصروبلاد الشام: (ص428ـ 430).

([7])   عصر سلاطين المماليك، التاريخ السياسي والاجتماعي: (ص151ـ 154).

([8])   شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ابن العماد الحنبلي، تحقيق: عبد القـادر الأرنؤوط، محمود الأرناؤوط، دار بن كثير، دمشق، ط1/ 1406ﻫ: (6/ 250).

([9])   عصر سلاطين المماليك السياسي والاجتماعي: (ص 149، 243 وما بعدها).

([10])   عصر سلاطين المماليك السياسي والاجتماعي (ص 214، 310).

([11])   وليد عبد الرحمن الأخرس: المدارس الأيوبية في مدينتي حلب والقاهرة، دراسة حضارية مقارنة، رسالة ماجستير، جامعة عين شمس، القاهرة 1430 ﻫ / 2009 م: (ص 15 ـ 16).

([12])   السيرة الزنكية (1 /191 ـ 192).

([13])   دمشق في عصر المماليك، نقولا زيادة، مؤسسة فرنكلين للطباعة والنشر، بيروت 1966م: (ص 175 ـ 185).

([14])   دمشق في عصر المماليك (ص185).

([15])   حسن المحاضرة (ص316).

([16])   الأدب العربي وتاريخـه في عصر المماليك والعثمانيين، محمـود رزق سليـم، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1957م: (ص11ـ13).

([17])   صور من الحضارة العربية الإسلامية في سلطنة المماليك، حياة ناصر الحجي، دار القلم، الكويت، ط1/ 1993م: (ص166).

([18])   إنباء الغمر بأبناء العمر، ابن حجر العسقلاني، تحقيق محمد عبد المعيد خان، دار الكتب العلمية، بيروت 1406 ﻫ  ـ 1986م: (8 /245). وينظر: طبقات الحفاظ للسيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1/ 1403 ﻫ: (ص549).

([19])   كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، حاجي خليفة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط/ 1413ﻫ ـ 1992م: (1 / 439). وينظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير، تحقيق سامـي بـن محمـد سلامـة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط2/ 1420ﻫ  ـ 1999م: (1 / 7).

([20])   نظم العقيان في أعيان الأعيان، السيوطي، المكتبة العلمية، بيروت: (ص 94).

([21])   الأعلام، الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، ط15/ 2002م: (1 / 228).

([22])   دمشق في عصر المماليك، نقولا زيادة: (ص 203).

([23])   الأعلام، الزركلي: (4 / 251).

الموضوعات